صوت الغضب

صوت الغضب

عماد الدين شاهين

الحديث ليس موجها للغاضبين من أبناء هذا الشعب الكريم، فهؤلاء يعلمون لماذا هم غاضبون. وإنما هو موجه فى الأساس لمن لا يرى أسبابا موضوعية ومقنعة لهذا الغضب من حكام ومن إخوان لهم ولنا فى الوطن، يصورون الغاضبين على أنهم مجرد شرذمة منحرفة ومأجورة ومخربة وما أشبه تنابذ اليوم بالبارحة.

الشارع الغاضب يحركه أطراف كثيرة منها من هو جدير أن يُسمع له. على رأس هذه الأطراف شباب محبط من سوء الأداء والطريقة التى يدار بها الوطن ومن تهميشهم بعد الثورة، وأصحاب الثأرات القديمة مع الداخلية وأجهزة الأمن قبل الثورة وبعدها، وقدامى محاربى محمد محمود ومجلس الوزراء الأولى الذين قُنص أجساد وعيون إخوانهم عن قصد وتدبير، وشباب الألتراس الذين اختطف منهم رفقاؤهم غيلة وغدرا ولقد رأيت بنفسى دموعهم تنهار كمدا فى الميدان لحظة مشاهدتهم فيلما يسجل ما جرى لإخوانهم، والمحرومون من أبناء العشوائيات الذين ضاق واسود فى وجوههم الأمل وألقوا بأنفسهم إلى قوارب الموت هربا من واقع مرير، والنافخون فى ثورة ثانية جديدة من اشتراكيين ثوريين ومثاليين وفوضويين، والحالمون باستنساخ ثورة 25 يناير 2011 واستدراك ما فات من أخطاء واستحداث بداية جديدة لتمكين الثورة، وشباب آخر يرى أن كل هذا لن يتحقق إلا إذا أصبح العنف موجعا وأصبح عقيدة وممارسة مدوية تُسمع من فى الحكم، وأخيرا الطرف الحاضر دائما من بلطجية ومرتزقة يحركها من يريدون إسقاط هذه الإدارة وإعادة إنتاج النظام القديم وإعادة أنفسهم للحكم. وفى هذه الزحمة والاحتقان تسعى النخب السياسية العتيقة إلى استغلال هذا الحراك الغاضب وركوب موجته كى تُبيض نفسها سياسيا وانتخابيا وتظهر أن لديها تأييدا جماهيريا واسعا وقدرة على الحشد وتوجيه الأحداث.

المبادرات المطروحة من القوى السياسية والوطنية على كثرتها تعكس عدم إدراك أو تجاهل لما يجرى فى الشارع. فهذا الشباب الغاضب لا يعنيه معظم ما تحرص القوى السياسية على الحوار أو التفاوض حوله. فالشباب غير مهتم بمصير النائب الذى يغير انتماءه الحزبى بعد انتخابه فى مجلس النواب، ولا حتى مواد الدستور المختلف حولها، ولا القانون الانتخابى واتساع أو ضيق الدوائر، فمعظمه لا يستطيع تحمل كلفة النزول لخوض الانتخابات، كما لا يرغب الكثيرون منه فى دعم القادرين لهم مقابل الاستيعاب وتقديم التنازلات. لقد مضى عامان والثورة لم تُمكن بعد، بل هناك مخاوف حقيقية من أن يعود من ثار عليهم الشباب إلى دهاليز الحكم مرة ثانية، ليس بالطبع بنفس الوجوه (وإن كنت لا أستغرب ذلك) وإنما كمؤسسات وأجهزة وأسلوب إدارة.
صوت الغضب آت أولا من إحساس الشباب أن الثورة قد سرقت منه. فالثورة أطلق شرارتها الشباب واحتضنها الشعب وركبها العسكر ثم أتى الصندوق بمن هم ليسوا بثوار أو شباب ثورة. حتى الآن يذكر من فى الحكم الثورة والثوار والشهداء والمصابين من باب رفع العتب أو من باب اخلينا نقول كلمتين عن الثورة والشهداء أحسن يقولوا علينا فلول»، ولكنهم لا يسعون إلى تمكينها وتمكين مطالبها. فحتى الآن لم تصل الثورة إلى خارج المدن الرئيسية أو لأى من مؤسسات الدولة. ولا يزال جيل العواجيز هو الذى يدير المشهد حكما ومعارضة.

صوت الغضب آت ثانيا من غياب أو اختلال ميزان العدالة. فحتى الآن لم يعاقب القاتل الحقيقي، ولا يراد لنا أن نعرف من قنص وخطط ودبر ومول هذه الثورة ومن هو الطرف الثالث ومن وراء الأيدى الخفية. أين القصاص العادل حتى الآن؟ وهل يمكن الثقة فى إنجاز عدالة انتقالية كما ينادى الكثير قبل أن تُمكن الثورة بالفعل؟ كيف يمكن توقع عدالة فى ظل عدم الثقة بين مؤسسات الدولة وتربص بعضها ببعض وهذه الثوارات المشتعلة بينها.

صوت الغضب آت ثالثا من غياب العدالة الاجتماعية. فهذا الملف لم يمس حتى الآن على الرغم من أنه من المطالب الأساسية للثورة. هناك تغافل مطبق للعديد من مطالب قطاعات عريضة من الشعب منها إقرار الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور ونظام ضريبى عادل وتوفير الاحتياجات الأساسية والخدمات الكريمة للمواطن الكادح الأرغفة الثلاثة ليست ترشيدا أو عدالة، وإنما هى من باب «اوضع الملح على الجرح». هى إهانة لمواطن يحلم وينادى بالكرامة الإنسانية.

صوت الغضب آت رابعا من التقاعس عن التطهير. ففى عقيدة هذا الشباب أن البناء لن يتم على أساس سليم دون تطهير حقيقى يأتى على المشاكل من جذورها. إلى الآن لم يتم إعادة هيكلة مؤسسات الدولة وتأهيلها لجعل مطالب الثورة وأهدافها حقيقة واقعة. وبدلا من أن تثور الإدارة الحالية الدولة وتطوعها لخدمة المواطن الكادح، إذا بهم وبسرعة مدهشة تتلبسهم الدولة بطقوسها وأجهزتها وبطانتها وغيبوبتها. الفساد يفلت من أيدى العدالة يوما بعد يوم، بل يريد البعض التصالح مع رموزه السابقة كى تسير المركب ونسترجع الاستقرار. تزاوج السلطة ورأس المال وأجهزة الدولة كما هو وكأن المراد هو إعادة إنتاج النظام السابق، وكأن هذه الثورة قامت من أجل الاستبدال بطبقة رجال الأعمال حفنة جديدة من التجار والكُفلاء.

ليست هذه دعوة للعنف أو التخريب أو الفوضى، فكل هذا مرفوض ومُدان بشدة. وإنما هى دعوة لاستمرار الغضب وإبقاء جذوته مشتعلة من أجل الحفاظ على روح هذه الثورة والتى أريد لها منذ رحيل مبارك أن «اتطلع» ولكنها قاومت وصمدت. من أهم توصيفات ثورة 25 يناير الأولى أنها اثورة الغضبب. ومن أجمل تجلياتها أنها أطلقت هذا الغضب – ليس كطاقة عنف وتخريب وانتقام – وإنما كطاقة سلم وبناء. وهذا هو المقصد. أن يتحول الغضب إلى طاقة تقويم وبناء. والمبادرات المطروحة حاليا غير قادرة على حل الأزمة بصورة مرضية. فالحوار والكلام يكون مع الشباب قبل أى طرف آخر. والمبادرات يجب أن تخاطبهم هم فى المقام الأول. فهم من فجَّر هذه الثورة وأصحاب القرار فيها وهم الأحق بإدارتها لأنهم مستقبلها. وعلى النخب القديمة ألا تضيع الفرص وأن تمهد الأرض لهؤلاء الشباب.

الثورات علم ومراحل، أولاها اعتدال، ثم فوضى وإرهاب، ثم تعاف وتمكين. وثورتنا لا تزال بين الاعتدال والفوضى. ونريد لها التعافى والتمكين. وأنا على يقين من ظهور جيل من الشباب المخلص يأخذ زمام الأمر بيده ويضع مصر على المسار الجدير بها وبثورتها.

email
مبادرات للخروج من الأزمة
المعارضة الانقلابية المناكفة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *