“دولة الشعب” للخلاص من “المستبد الظالم”

“دولة الشعب” للخلاص من “المستبد الظالم”

منذ انقلاب يوليو/تموز 2013 في مصر، والتفويض الشهير بعده، ظهر أن شعبنا الطيب راهن على صيغة “المستبد الظالم”، المألوفة في التراث الثقافي/السياسي، والمستلهمة من صيغة الفرعون الإله والقائد الملهم والرئيس المعلم والزعيم الفذ… طبيب الفلاسفة الذي “جاء مع موعد مع القدر”، ليوفر الأمان والاستقرار، ويرفع عن كاهله عبء تحمل مسؤولية الحرية ومواجهة المجهول. وصل عبد الفتاح السيسي إلى هذه الصيغة، وجذب بها، في البداية، حلفاء “30 يونيو” وحزب الكنبة والغاضبين على “الإخوان المسلمين”. لكن التحالف انهار سريعاً، بعد أن ظهر أن الموضوع ليس أكثر من وهم، وأن المطلوب من الناس هو أن تعيش “على قديمه”، في معادلة استقرارٍ مزيفٍ، واستبدادٍ ظالمٍ، وخوف مشل، وفساد مستشرٍ.

وللأسف، ما يزال بعض الناس يضعون أملاً في “المستبد الظالم”، إما لأنه يخلصهم من خصومهم السياسيين، أو بسبب الوهم أنه وحده القادر على التصدّي “للخطر المحتمل”، أو يأملون في تحسن أوضاعهم المعيشية يوماً ما.

كثير من قوى الشعب أدركت فشل “المستبد الظالم” وصيغته. لكن، ما زالوا متقبلين فكرة التعايش معه، إما بسبب الخوف من بطشه، أو من المستقبل غير المضمون، أو المجهول غير المطمئن. وتتحمل قوى المعارضة مسؤولية كبيرة في ذلك، لأن ما تقدمه ما يزال غير واضح، ما يجعل الشعب غير مستعد للمراهنة على هذه القوى، مرة أخرى، خصوصاً بعد ما مرت به خلال السنوات الخمس الماضية، وبعد أن أرهقتهم الثورة، وبعد أن فعل طرْق الإعلام الموجّه ما فعل. فهم يرون أمامهم جزءاً من المعارضة يطالب بإسقاط الانقلاب (الذي أصبح بالمناسبة نظاماً استبدادياً معترفاً به، ويُكافأ على قمعه من دول غربية وجارات قمعية)، وجزءاً يطالب بعودة الشرعية، وجزءاً يطالب بدولةٍ مدنية، وجزءاً يحلم بدولة ديمقراطية، وجزءاً يطالب بمسارٍ ثوري، وجزءاً تراوده فكرة المصالحة السياسية، وجزءاً متعايشاً مع النظام، ويريد إصلاحه من الداخل، وجزءاً خرج علينا، أخيراً، يناضل من أجل حماية دستور الانقلاب. مطالب كثيرة ومتناقضة جعلت الناس يزهدون في الثورة، وآيستهم في النخب المدنية، وشكّكتهم في إمكانية التغيير.

أمام معارضي الدولة القمعية (ولا تندرج في هؤلاء المعارضة المزيّفة المصطنعة التي أيدت الانقلاب، ومنحته غطاءً سياسياً، وشاركت في حكم العسكر، وتلوثت أيديها بالدم) مهام كبيرة، لكنها ليست مستحيلة. عليهم أن يحدّدوا للناس “صيغةً” واضحةً، تحرّكهم وتنقلهم من حالة قبول التعايش مع هذا النظام القمعي الفاشل إلى حالة رفضة تماماً، والاستعداد للمخاطرة والنزول ضده.

يجب أن تنكسر صيغة “المستبد الظالم”، ويقتنع الناس بصيغةٍ جديدةٍ، تجسد هذه الأساسيات: جيش يحمي ولا يحكم، داخلية تحت رقابة مدنية وقضائية، مواطن كريم وسيد، لا للقمع والظلم، لا للفساد ولا للقهر الاجتماعي، شفافية ومحاسبة، دولة عدل وقانون وحقوق إنسان، دولة مؤسسات حديثة متطورة، مساواة وحقوق للجميع، عدالة فورية انتقالية واجتماعية.

آلاف من المصريين لديهم الكفاءة ومؤهلون لتنفيذ هذا الكلام. لكن، يتم تهميش الجميع، إما بالزج بهم في السجون أو تشريدهم في المنافي. كي يستطيع “المستبد الظالم” أن يبقي على ميزانالعلاقات المدنية العسكرية دائماً في صالحه، ويقنع الناس بأنه لا يوجد بديل غيره “ما تسمعوش كلام حد تاني، إسمعوا كلامي أنا بس”. وأنه لا يوجد أي مؤسسات أو سياسيين أو نخب أو شخصيات عامة غير مؤسسة الجيش، وأنها هي فقط التي تستطيع أن تنهض بمصر. أليس المستبد الظالم هو القائل “لو مصر وقعت الجيش يقدر يقوّمها، ولكن لو الجيش وقع، مصر ما تقدرش تقوّمه”. وكأن مصر جيش وبنوا عليه دولة!. لا، مصر غنية بالخبرات والكفاءات والبدائل (أليست هي المعروفة بأنها بلد شهادات ودكاترة). المدنيون القادرون على أن يقوموا بهذا البلد كثيرون. ما هو الجيش المصري أصلاً؟ هو جيش عماده وصلبه، على مدار السنين، من المدنيين المجنّدين سخرةً عند الفئة الظالمة من قادة العسكر. مدنيون كثيرون متخصصون في الاقتصاد والمالية والسياسة العامة والتخطيط والسياحة والزراعة والصناعة والعدالة الانتقالية والعدالة الاجتماعية، ويستطيعون أن يخططوا ويبنوا ويديروا الدولة.

صيغة “المستبد الظالم” حتماً إلى زوال… كما زال مبارك وبن علي والقذافي. والصيغة الجديدة بعد الخلاص من هذا الكابوس تتمثل في “دولة الشعب”، وذراعها حكومة وفاق وطني، تبني مصر المستقبل، وتبني دولة العدل والحرية والكرامة، وتبني دولة يناير، كما أطلق عليها شباب إعلان فبراير قبل أسابيع.

الآن، جاء دور “دولة الشعب”. “دولة الشعب” الذي لم ينحز له أحد، وضُحك عليه 65 عاماً. “دولة الشعب” الذي وصفه الفاسدون، من قادة المؤسسة العسكرية والأمنية، مرّاتٍ، بأنهم “دول عبيد عندنا وإحنا أسياده”. “دولة الشعب” الذي أذاقوه المرّ وقهروه بالغلاء والقمع والبلطجية وكسر الأمل وقلة الرجاء.

أخذ الجميع دوره إلا الشعب. مبارك انحاز لرجال أعماله، وانحاز “الإخوان” للدولة ومؤسساتها، ولم ينحازوا للشعب، والليبراليون انحاز معظمهم للانقلاب العسكري، وانحاز الجيش لنفسه، ولمرتباته وامتيازاته. جاء الآن، دور الشعب، لتنحاز إليه حكومةٌ تكون بالفعل “خادمه للشعب”، ورئيس “خادم للشعب”. حكومة مدنية تكون في خدمة الشعب ومصالحه، وتحت رقابته، ومسؤولة أمامه. تنظف وتطهر فوراً هذا الفساد الجاثم على صدورنا عقوداً طويلة، والذي أصبح ينذر بخراب الاقتصاد والبلاد، وتوفر عدالة وقانوناً، وتحافظ على كرامة المواطن، وتعيد هيكلة المؤسسات كلها، وتنفذ العدالة الانتقالية، وتستعيد السلم والمصالحة المجتمعية.

لتكن البداية أن تأتي قوى المعارضة أولاً، وفي أقرب وقت، إلى كلمة سواء، يقرّون فيها أن مصر في خطر حقيقي، وأن مصلحة الوطن فوق الجميع، وأن الجميع أخطأ، وأن على الجميع واجب المراجعة والمصارحة، وأن على الجميع الالتزام بالإنصاف، وأن انحيازنا القادم يجب أن يكون للشعب وللشباب وللمستقبل. ولتكن نقطة البداية في “عهدٍ” يحدد الإطار والمبادئ، ويلتزم به مجموعة من المصريين الوطنيين الذين لم يتعاونوا مع الانقلاب، ولم يدوروا معه، حيث أمرهم، ولم يوفروا غطاءً سياسياً له، ولم تتلوث أيديهم بدماء إخوانهم المصريين.

المصدر: العربي الجديد

email
مسألة الشرعية في مصر.. قراءة هادئة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *