في البدء كانت الدولة !

في البدء كانت الدولة !

فالدولة في مصر ولدت قبل الامة ، حيث نشأت الجماعة الوطنية المصرية الحديثة مع ثورة 1919، أي بعد تأسيس الدولة بقرن تقريبا كما هو معروف للجميع حين بنى محمد علي دولة لجيشه ولخدمة طموحه الشخصي في بناء امبراطورية تنافس الباب العالي وتصير له ولأسرته من بعده. ظروف هذه النشأة ما تزال تؤثر على العلاقة بين الدولة والمجتمع وعلى العلاقات المدنية – العسكرية في مصر حتى الأن.

الدولة عموما هي شعب وأرض وكيان يمارس السلطة بصورة شرعية. وبصورة أكثر تحديداً هي مؤسسات تشريعية منتخبة وتنفيذية مسئولة أمام الشعب وقضائية مستقلة ونزيهة. أي ما يطلق عليها دولة مؤسسات ودولة قانون ودولة حديثة.

أما في مصر فالدولة شكل أخر. الدولة المصرية كانت (إلا لفترات قصيرة نادرة) كيان توظف السلطة أجهزته لمصلحة حاكم فرد، أو مشروع لحاكم إن وجد هذا المشروع، أو لفئة من محاسيب الحاكم، أو لدكتاتور دون رؤية. هي دولة أجهزة…جيش وأمن وشرطة وإعلام وقضاء…أو هكذا يراها حكام مصر في كل زمان. مؤسسات قمع وبطش وتزييف وعي وإن لم يجد كل هذا فالقضاء يتولى الباقي. فكل ديكتاتور لا يرى فيها إلا جهاز أمن قوي ومجموعة من الاعلاميين والمثقفين (الأذرع) التي تعتمد عليهم الدولة في تزييف الوعي أو تجميل القمع.

ولكن أين الشعب؟ الشعب شعب الدولة وشعب الحاكم الفرد. والتحذير كان واضحا: “ما حدش يخش بيني وبين الشعب”. دولتنا يتماهى   فيها الشعب مع الحاكم الفرد، ويتماهى  فيها النظام مع الدولة.

بالطبع الدولة في مصر أعمق وأعقد من ذلك بكثير. فهي ليست كيان جامد لا يتحول وإنما تتغير مع تغير السلطة وتغير إرادتها. فالدولة قبل 1952 في الفترة الليبرالية كان لها بعد عمومي (أهلي) وحتى أخلاقي واضح. خذ مثلا أسماء الوزارات آنذاك وما تعكسه من إدراك لمسؤوليات الخدمة العامة مثل وزارة الحقانية (من إحقاق الحق)، ووزارة الأشغال العمومية (إدراك المجال والنفع العام) ووزارة المعارف (المعرفة والعلم) وغيرها. كان للدولة بعدًا خدميا عموميا، عكسته أيضا الحالة الذهنية والاجتماعية للموظف العمومي آنذاك من إحساسه بخدمة الدولة التي تخدم مواطنيها وكونه جزءاً من هذه المنظومة التي تخدم دولة وليس فردا أو نظاما بالأساس.

والدولة تتحول بعد 1952 وتتماهي مع النظام. فنفس هذا الموظف أصبح يخدم نظاما أكثر من كونه يخدم دولة. وأصبحت الدولة مختزلة في النظام ومشروع رأس النظام ورؤيته. والجميع أصبح “خُدام الدولة” وأذرعها. والأشياء العمومية انُتزع منها الجانب الأهلي المدني وتغيرت الأسماء إلى التربية التعليم. فالدولة/النظام هي التي تربي وتعلم بدلا من أن توفر المعارف. وهي التي تنشأ وزارة الإرشاد القومي والإعلام وما شابه من أجهزة وأدوات تزييف الوعي للعب بأدمغة المواطنين. وكان أمل كثيرين ممن عاصر تلك الأيام من أبناء جيلي – جيل الثورة – أن نحصل مقابل تفوقنا على صورة للزعيم جمال عبد الناصر أو حتى عبد الحكيم عامر، وكنا نجتهد في التفوق والمنافسة كي نحصل على صورة ملونة بحجم كبير عليها توقيع الزعيم. ولعلي أبوح بسر أليم فقد شببت على أن الدولة والزعيم لا يمكن إلا أن يعملا لمصلحة الشعب والوطن. وأدركت أن هذا ليس صحيحا في مرحلة متأخرة من العمر.

من الفئات التي سيصعب التعامل معها وتطهيرها عندما نؤسس لدولة ديمقراطية هي فئة “اولاد الدولة” وهؤلاء يتجاوز ولائهم الرئيس والنظام (لأن كل ذلك زائل في عقيدتهم) ويلتصق “بأجهزة الدولة مباشرة” لأنها في نظرهم هي الباقية والمعبودة أبدا. هم مستعدون للعمل مع وتحت أي نظام، وهم الأسرع دائما في تغيير أفكارهم ومواقفهم وجلودهم، ولا أقول مبادئهم ، لأنه ليس لهم إلا مبدأ واحد وهو الدوران مع أجهزة الدولة حيثما دارت ومع من في الحكم أيا كان. أولاد الدولة يعششون في الاعلام وفي القضاء وفي الجامعات وفي الجهاز الإداري وبين “المثقفين والمفكرين”. من أهم سيماهم أنهم لا يمكن ان “يغلطوا في أجهزة الدولة” ودائما يبررون تصرفاتها.

وللحقيقة أشهد أنهم هم أقرب الناس للواقعية وأبعدهم عن المثالية والأخلاق ودائما ينتهون في الجانب المنتصر. ومن هنا نجدهم يَفْجُرون في الخصومة ويكيلون لمن يريدون تحرير الدولة والوطن أفظع اتهامات التخوين والتخابر والتخريب والارهاب. ويحرضون “دولتهم” ضد مخالفيهم الى حد المطالبة بالإقصاء واستخدام القوة والاستئصال.

تعرفهم عندما يكثرون الحديث عن هيبة الدولة، ومؤسسات الدولة، وأمن الدولة و “إلّا  الدولة” و “إلّا  الجيش”. يماهون عن عمد في حديثهم بين الدولة والجيش والوطن كي يُلبسوا على الناس هذه المفاهيم ويتمكنوا من إقصاء خصومهم. وكأن المشكلة هي الجيش أو الدولة أو الوطن.

لا أحد يريد هدم الدولة أو استهداف الجيش أو تخريب الوطن، وإنما فقط التخلص من رموز التسلط والفساد ومحاسبة القلة الرابضة فوق الجميع والتي ترى نفسها فوق المحاسبة…”ما فيش ضابط حيتحاكم بتهمة قتل المتظاهرين أو إصابة عين واحد!” أين رأسهم السابق مبارك الان وأين المشير طنطاوي وأين رأسهم الحالي…وأين حقوق الشهداء والمصابين وأين المتظاهرين؟!

جوهر المشكلة والصراع الحالي هو حكم العسكر وحتى ليس كل العسكر وإنما بالتحديد الطغمة القليلة المسيطرة على مقدرات الوطن السياسية والاقتصادية وليس الجيش كمؤسسة وطنية. وكذلك جوهر المشكلة مع “دولتهم” المشخصنة هو الاجهزة الامنية القمعية وليست دولة المؤسسات الحديثة التي نتمناها لمصر.

حديث الدولة الحالي هو حديث بهتان وزيف. فها هو من يؤكد أن عام 2014 هو عام رجوع الدولة لأبنائها. وهو في الاساس حديث من أجل التوظيف السياسي فقط ومن أجل ترهيب وإقصاء الخصوم والسيطرة على المجتمع، لان السلطة الحالية ليس لديها رؤية أو مشروع تحشد وراءه الشعب ومن هنا محاولة بعث منظومة الدولة لتكون هي المشروع. فكما صرح الحاكم الفرد في حديثه مع الادباء والاذرع: “يسألونني ما رؤيتك؟ وأقول الحفاظ على الدولة”. وهل الحفاظ على الدولة يمثل رؤية؟ وأي دولة تلك التي يريدون الحفاظ عليها؟ دولة العسكر أم دولة الفساد والمحسوبية أم دولة العواجيز أم دولة التصنت والتسريبات أم دولة القمع والبوليس؟ أي دولة تلك التي يريدون الحفاظ عليها ويقتلون ويعتقلون ويزورون ويلفقون من أجلها!

حديث الدولة الحالي حديث فاشي إقصائي والدولة الحالية لا تقيم وطن ولا تصلح مجتمع. إنما تؤسس مرة أخرى لنظام ديكتاتوري متسلط. فخبرة معظم الشعب المصري معها ومع مؤسساتها القمعية سلبية. فتجربة الاربعة سنوات الماضية أفقدت الكثير من الشعب الثقة في مؤسسات تلك الدولة.

لا يمكن الحفاظ على دولة دون اصلاح مؤسساتها واعادة الحياة الى أوصالها. وهذا يحتاج الى ثورة وإلى رؤية وليس لعنوان فارغ المضمون ولا لسلطة ترى أن الحديث عن إصلاح مؤسسات الدولة يؤذي أحاسيسها. يعلمون أنهم يكذبون لأننا ليس لدينا دولة مؤسسات حقيقية بعد (مستقلة ومتوازنة وفاعلة) وإنما دولة أجهزة قمعية. فلا يخدعكم حديثهم عن الدولة…فليست تلك الدولة التي تليق بمصر الآن.

المصدر: مصر العربية

email
صيغة لا غالب ولا مغلوب
النظام المصري بين السلطوية المستحيلة والديمقراطية المستبعدة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *