الحضارة التى بقيت والتحضر الذى ذهب

الحضارة التى بقيت والتحضر الذى ذهب

عماد الدين شاهين

للمصريين حضارة عظيمة يشهد عليها روائع الآثار التى لا تزال تبهر العالم.. ولكنهم فقدوا التحضر، يشهد على ذلك ايضا العشوائية والعدوانية والفردية فى السلوك والتعامل. وليس هذا قدحا فى شعب عريق، وإنما هو امل أن يعود لهذه الحضارة العظيمة تحضُّرها الذى فقدناه.

فهناك فارق بين الحضارة كإنجاز عمرانى وثقافى واقتصادى واجتماعى لشعب فى فترة زمنية معينة، والتحضر كحالة ذهنية (state of mind) توجه الإنسان وترقى بسلوكياته. ويمكن لأحفاد حضارة عريقة ان يفقدوا الصلة بروحها وينفصلوا عنها على الرغم من وجود آثارها حولهم. ومَثل احفاد الحضارة اليونانية والمصرية قائما، وشتّان بين اجيال شيدت واخرى بددت. ولكن تبقى «جينات» الفعل الحضارى والقدرة عليه موجودة يمكن لها أن تعود اذا أُحسن استدعاؤها (تشهد على ذلك حرب أكتوبر المجيدة والثمانية عشر يوما من ثورة يناير التى أخرجت أفضل ما فى المصريين فيما عرف «بأخلاق الميدان»).

هذا ما أمن به رواد النهضة الاوائل كالشيخ رفاعة الطهطاوى (الشغوف بالحضارة الفرعونية) والوزير خير الدين التونسى (المهموم بالدستور) والسيد جمال الدين الافغانى (الحالم بالثورة السياسية والاجتماعية) والامام محمد عبده (المُـثقل بالإصلاح والتدرج) وغيرهم ممن حاولوا سبر «سر تقدم الغرب وتخلف الشرق». وهذا حديث يطول، ولكنهم اجمعوا على ايمانهم العميق ان الاسلام وقيمه يشكلان مصدر التمدن والتحضر، وان الحضارات تقوم على «فضائل مدنية» أو ما يعرف فى الغرب بـ «Civic Virtues»، وأن التعليم وتهذيب الاخلاق هما المدخل المباشر للتحضر.

القيم المدنية فى الغرب حاليا هى «خلطة تاريخية» من المبادئ المسيحية واليهودية والانسانية تم استخلاصها على فترات ممتدة لتتماشى مع المنهجية العلمانية ومتطلبات التمدن. على رأس هذه القيم احترام قيمة الانسان (الغربى خاصة)، والرغبة فى السيطرة على الطبيعة وكشف اسرارها، واحترام قيمة الوقت واتقان العمل، وتقويم الاعمال بنتائجها، وروح المغامرة والاكتشاف، والاعتماد على المنهج التجريبى فى اكتساب الحقائق، وغيرها من القيم التى اصبحت تشكل ذهنية وسلوك كثير من الغربيين.

وللإمام محمد عبده مقالات كثيرة فى التحضر وفى الفضائل المدنية. لعل كتابه «الاسلام والنصرانية مع العلم والمدنية» شاهد على إدراكه ما للدين والعلم والتحضر من صلة وثيقة. لذا ذهب إلى ان تمدن الامم يرتكز على قوانين اخلاقية (فالأعمال ثمرات الاخلاق)، يأتى على رأسها العدل والمساواة والشورى، وأن القرآن الكريم يحتوى على كل الفضائل المدنية وواجب المسلمين هو إحياء هذه القيم وأعمال العقل وفهم الدين فهما صحيحا والنظر بتمعن فى كتاب الوحى (نصوص القرآن) وكتاب الطبيعة (العلم).

وللشيخ رفاعة الطهطاوى من قبله آراء لافتة فى التحضر من بينها أن حب الوطن هو اساس الفضائل السياسية، وان التحضر يقوم على القيم الدينية والانسانية، وأن التحضر يؤسس على النشاط الاقتصادى (اتقان الصنائع)،  وأن الثروة هى نتائج فضائل الاعمال. ومفتاح كل ذلك التربية والتعليم الذى يبنى الشخصية القويمة (أو تهذيب الاخلاق)، كما أطلق عليه رواد «الأنسنة الإسلامية» فى القرن الرابع الهجرى أمثال ابو حيان التوحيدى وابن مسكويه وغيرهم، الذين ركزوا على قيم أساسية للتحضر: احترام قيمة الإنسان، ووحدة الإنسانية، وتحصيل السعادة، والعقل والعلم كوسيلة لتهذيب الاخلاق (أى التحضر)، وعلى التعاون فى الانسانية لتحصيل السعادة (ألفاظهم دون تصرف).

يرتكز التحضر ــ أى هذه الحالة الذهنية التى تؤسس لصالح الاعمال وفضائل السلوك ــ على منظومة اخلاقية متكاملة وعلى قيم عليا،  مرتبطة الصلة بقيم المجتمع ذاته حتى يمكن ان تستقر وتقوى جذورها بين الناس.

وقبل تفصيل هذه المنظومة يجب التشديد أولا على أهمية تحويل اهتمامنا ولو لفترة بسيطة من الدولة إلى الانسان، ومن القانون إلى الاخلاق، ومن الاسلام السياسى إلى جوهر الرسالة وهو الرحمة «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين». وأهمية تأسيس الشريعة ومبادئها واحكامها على الرحمة والاخلاق فى المقام الاول، انطلاقا من قوله تعالى «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

ثانيا، أن نجتهد فى صياغة منظومة أخلاقية عالمية (universal) تتكون من قيم «عُليا» يتشارك فيها الناس عامة بغض النظر عن دينهم وجنسهم وأيديولوجياتهم، وهى قيم لا تقبل الاجتزاء، وصالحة لكل زمان ومكان، ومن هنا عالميتها (universality).

القيمة الكونية الاولى هى «كرامة الانسان». وهى قيمة عليا تعصم كل البشر ــ «ولقد كرمنا بنى أدم» ــ من أى انتهاك لحقوقهم الانسانية والجسدية والاقتصادية والاجتماعية. والقيام على هذه الكرامة يكفل للإنسان احتياجاته الاساسية من تعليم ومسكن ومأكل ومشرب وملبس وحقه فى التنقل والتجمع والرعاية الصحية وكافة الحقوق الانسانية الاخرى. وهى قيمة تؤكد وحدة الانسانية كما لخصها الامام على بقوله «الناس صنفان: أخ لك فى الدين أو نظير لك فى الخلق».

القيمة الثانية هى الحرية والحق فى الاختيار. فالعقل والحرية هما مناط التكليف وتحمل المسئولية، كما انهما شرط المحاسبة. وتكريم الإنسان يستلزم احترام وحماية عقله وحقه فى ممارسة اختياراته والايمان بقدرة العقل كما اراد الله له فى تمييز الخبيث من الطيب.

القيمة الثالثة هى حماية التنوع والاختلاف. فعلى الرغم من الاصل الواحد للإنسانية فإن الله اراد ان تتعدد اشكالها وألوانها وألسنتها (أى ثقافاتها). ويعنى التعدد بالضرورة الاختلاف فى المعتقدات والثقافة والآراء. وهذا التنوع والاختلاف ــ الذى هو رحمة ــ آية وحكمة يجب أن نحافظ عليها ونحميها. «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة».

القيمة الرابعة هى التسامح، وهو ضرورة لازمة وطبيعية لإقرار التعدد. فالقبول بالتنوع والاختلاف يستوجب التسامح والتعايش مع المخالف، ليس من باب الترفع وإنما من باب الامتثال لما أراده الله من تعارف بين البشر ومحافظة على التنوع الثقافى والانسانى الذى جعله الله من آياته. «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ»

القيمة الخامسة هى العدل والقسط والإحسان. وكلها قيم كونية ومركزية للتحضر، واجبة التطبيق بحقها على كافة البشر حتى مع من نبغضهم. فالعدل هو باب التقوى والاحسان هو فعل الخيرات على أكمل وجه. وذهب الامام الرازى إلى ان جُل القرآن هو تفصيل لآية «إن الله يأمر بالعدل والاحسان».

وتتجاوز هذه المنظومة الأخلاقية المواعظ العابرة إلى التطبيقات العملية لكثير من المفاهيم الملتبسة حاليا مثل قضية حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة، والمواطنة،  والديمقراطية، ونظرتنا إلى العالم والآخر المغاير، واخلاقيات الجهاد والسلام وغيرها.

ويحتاج تأسيس هذه المنظومة إلى منهج علمى جديد فى التعليم والتربية ورؤية مبدعة فى فهم وتعليم الشريعة ومقاصدها لكى نسترجع التحضر الذى فقدناه. هذا ما وعاه تماما الإمام الغزالى حينما اعتكف لسنوات والحرب الصليبية تدور رحاها لتأليف «إحياء علوم الدين»، الذى هو فى الاساس موسوعة أخلاقية لإعادة بناء الاطار الاخلاقى فى الشريعة والفقه واصلاح السلوكيات العامة (إحياء التحضر). وكان «الاحياء» مقررا فى مدارس الوزير نظام الملك لعقود طويلة وتربى عليه صلاح الدين الايوبى وجيله الذى حرر القدس.

المصدر: الشروق

email
الرئيس مرسي والخطاب الغائب
مبادرات للخروج من الأزمة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *